في عام 1975، لم تطلق بلدة الطيبة الجنوبية (قضاء مرجعيون) النار ابتهاجاً برأس السنة. بل تولّت قوة كوماندوس إسرائيلية افتتاح عامها واغتيال أربعة من مقاوميها في هجوم على منزلهم ليلة العيد. الاشتباك الأول من نوعه، لم يثبّت سكة الطيبة باتجاه المقاومة المسلحة ضد إسرائيل فحسب، بل أحلّها من ارتباطها الإقطاعي بآل الأسعد الذين أداروا شؤون جبل عامل من دارتهم فيها
لا يمكن التغاضي عن ثقل حضور عائلة آل الأسعد في تاريخ جبل عامل. ولأنّ الزعيم يلتصق بعرينه الجغرافي في أذهان الناس، ارتبطت الطيبة (قضاء مرجعيون) بالفرع الأبرز من العائلة التي استقرت فيها بعد انتقالها إليها من موطنها الأصلي في تبنين. دارتهم، التي شيّدوها على تلة مشرفة، باتت قبلة الواقعين في فلك تأثيرهم. لكن لماذا الطيبة؟
يوضح مختار البلدة أحمد شرف الدين أن أسعد بن محمد بن ناصيف النصار الوائلي تزوج سيدة من البلدة تدعى عبلة شرف الدين. وبسبب هجمات أحمد باشا الجزار على مقر نفوذ آل الأسعد في تبنين، توزعت فروع العائلة في أكثر من منطقة. انتقل أسعد إلى الطيبة عام 1850، حيث شيد داراً وأنجب ثلاثة أبناء، اثنان منهم قتلهم العثمانيون في دمشق، وبقي خليل الذي منحه العثمانيون لاحقاً لقب «بيك» بعدما كان يعرّف بابن بيت الوائلي أو ابن علي الصغير. وعيّن مأمور أحراج ثم متصرفاً على نابلس. في الطيبة، كان ينافسه على الزعامة ابن خاله موسى شرف الدين. يقول المختار إن «خليل بيك» أقدم على قتل شرف الدين وطرد عائلته. وتنقل الروايات أنه أقام، لمناسبة نيله لقب البكوية، حفلة في دارة الطيبة لوجهاء المنطقة الذين بادر كل منهم إلى مبايعته على الزعامة وتنازل كل منهم عن ربع خراج بلدته وربع إنتاجها لمصلحة «البيك»، على أن يدفع عنهم الأخير «الوركو»، أي الضريبة، للعثمانيين. هكذا دخلت معظم أراضي المنطقة في ملكية آل الأسعد. بعدها، أورث خليل الزعامة لابنه كامل الذي انتخب عام 1911 نائباً عن بيروت في «مجلس المبعوثان» العثماني في إسطنبول، وأعيد انتخابه بعد عام عضواً عن الحزب المحافظ الملكي. وهو كان أحد الذين دعوا، عام 1920، إلى عقد مؤتمر وادي الحجير الذي أعلن فيه أعيان الجنوب الشيعة رفضهم فصل لبنان عن سوريا، داعين إلى الحفاظ على وحدة بلاد الشام تحت القيادة العربية. عند وفاته، عام 1924، انتقل إرث الزعامة إلى شقيقه عبد اللطيف الذي كان يوالي الانتداب الفرنسي، لكن الدور المحدود للأخير أدى إلى خبو نجم العائلة حتى عام 1936 عندما امتشق ابنه أحمد سيف آل الأسعد، بدفع من زوجته فاطمة، ابنة عمه، التي أحيت ذكر والدها «كامل بيك»، بإطلاق اسمه على ابنها. وورث الأخير عن والده زعامة جبل عامل وتمثيل الطائفة الشيعية والنيابة ورئاسة مجلس النواب. لكنه لم يستثمر كأسلافه مناصبه في رفع أسهم العائلة منذ انتخابه رئيساً لمجلس النواب عام 1964 أول مرة. بل إن ارتباط اسمه باتفاق 17 أيار الذي صوّت المجلس النيابي برئاسة الأسعد عليه عام 1983، لا يزال يشكل في أذهان كثيرين وصمة عار. الاتفاق وارتباطات أخرى، سحبت من تحت الأسعد بساط رئاسة المجلس بعد عام لمصلحة حسين الحسيني ليبدأ نجم الزعامة الأسعدية بالانطفاء، ويغادر كامل الأسعد إلى فرنسا لثلاث سنوات. في كل هذا المسار، لم يعط مساحة لمسقط رأسه الطيبة. حتى مع محاولته استعادة مجد العائلة عبر ترشحه للنيابة عام 1992 عن دائرة مرجعيون – حاصبيا، حال الاحتلال الإسرائيلي دون عودته إلى دار عائلته في الطيبة، مستبدلاً إياها بقصر في بلدة كفرتبنيت (قضاء النبطية). لكن الدار الجديدة لم تستطع استقطاب من استقطبته دارة الطيبة. فتغييرات الحرب الأهلية والنهاية «الطبيعية» للإقطاع والزعامات التقليدية في الجنوب، نقلت ولاء الناس نحو حزب الله وحركة أمل، لأسباب شتى. وبناءً عليه، لم يرث أحمد، ابن «كامل بيك»، شيئاً من ألق زعامة آل الأسعد، وانتهى وريث الزعامة الوائلية «مستشاراً عاماً» لـ«تيار الانتماء اللبناني»ن لا يُسمع اسمه إلا كل أربع سنوات أو في بعض المناسبات. وعلى خطى الوالد، استبدل أحمد دارة الطيبة بدارة في صريفا لا يزورها إلا في مواسم الانتخابات. هذا بالنسبة إلى زعامة آل الأسعد، فماذا عن الطيبة؟ «صيت عالفاضي»، يقول أبو خليل عواضة (مواليد 1925) عن تكرار ذكر البلدة في المراجع التاريخية، ومنها موّال كان يتناقله الناس: «عالحج بطلنا السفر، كعبة جبلنا الطيبة». فقد زارها بكوات الدولة العثمانية ثم المندوب السامي ثم رئيسا جمهورية وحكومة الاستقلال بشارة الخوري ورياض الصلح، لحضور «مهرجان رفض دولة الاستقلال وتمسكهم بالولاء للدولة السورية في دمشق» الذي نظمه أحمد الأسعد في دارته، احتجاجاً على تهميش الطائفة الشيعية. ومرة أخرى في الدورات الانتخابية عندما كانت الوفود الشعبية من الجنوب تؤمّ الدار لتقديم ولائها له. أما ريع ذلك الصيت على الطيبة، إنمائياً وخدماتياً، فكان صفراً أو ما يزيد بقليل، يؤكد عواضة. بالنسبة إلى التعليم على سبيل المثال، لم يسجل للعائلة تشييد مدرسة. بل إن الأجيال لا تزال تتوارث جواب «أحمد بيك» على طلب وفد من بلدة حولا إنشاءَ مدرسة لتعليم أولادهم: «ليش بدكم تعلموا أولادكم؟ عم علملكم كامل». حتى إن كتباً تنقل أن خليل بك ألّب الأهالي على عرض المندوب السامي الفرنسي إنشاء كلية فرنسية في الطيبة تكون فرعاً للكلية اليسوعية في بيروت لتدريس الفرنسية والعلوم العصرية، تحت شعار أن الفرنسيين «يريدون أن يخرجوا أبناءنا عن دينهم، بتعليمهم الفرنسية بدل القرآن وتحويلهم إلى أتباع لهم، فلا يعود أحد منا يمون على ابنه». أما على صعيد التوظيف، فيرى الكثيرون في الطيبة أن بكوات آل الأسعد تعمّدوا عدم توظيف أحد منهم في وظيفة رسمية أو رفيعة «بسبب خشيتهم من اختلاطهم ببيئة أخرى توسع مداركهم وتطور آراءهم، فيثورون عليهم». تحفظ الذاكرة تجربة إبراهيم مصطفى، أبرز من كان يلقي رديات الثناء والمديح في دار الطيبة. كان موعوداً بتوظيف ابنه مكافأةً له. لكن الأخير حبس لمدة شهر بسبب مشاركته في تظاهرة عمالية في بيروت، ولم يتوسط أحمد بيك لإطلاق سراحه، فراح يردد: «حوربت لابن الوائلي حتى الكواير تمتلي، كان الجزاء حبس شهر لابني علي». أما إذا منحهم توصية لوظيفة أو خدمة، فكانت لا تعدو مهنة حمّال أو عامل تنظيفات في بيروت. حتى إن مشروع الطيبة للري، الذي أنشأته الحكومة عام 1953، وضعت الدراسات لإنشائه في أراضٍ يملكها غريم له من أقربائه عند أطراف العديسة، قبل أن يبادر إلى تحويلها إلى الطيبة. أما ابنهه كامل فكان، خلال رئاسته للمجلس، يتدخل لتأمين وساطة لخدمة هنا أو وظيفة هناك لأبناء الطائفة من دون امتياز خاص لمسقط رأسه. وفاة أحمد الأسعد عام 1961 لم تنقل الزعامة إلى ابنه كامل فحسب، بل نقلتها من الطيبة التي استبدلها الأخير ببيروت. قلّص من زياراته لها ومن التواصل مع أهلها. بالتزامن، كانت الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية المتحالفة معها تهدر في المنطقة بوجه الاعتداءات الإسرائيلية. اليوم الأول من عام 1975، صنع الطيبة الجديدة. قوة كوماندوس إسرائيلية من الوحدات الخاصة اقتحمت منزل المقاوم البعثي العراقي عبد الله شرف الدين الذي اشتبك مع قوات الاحتلال، واستشهد مع شقيقيه فيما أصيب شقيقه الثالث بجروح، فيما قتل قائد الهجوم وأصيب ستة عناصر معه. ولدى انسحاب القوة، التقت في طريقها بالمناضل الشيوعي محمود قعيق فقتلته. في تشييع الشهداء، تحولت الطيبة محجة لشخصيات من نوع آخر. رئيسا الحكومة تقي الدين الصلح وسليم الحص والإمام موسى الصدر تقدموا آلاف المشيّعين. الأخير أطلق من هناك شعاره ضد إسرائيل: «السلاح زينة الرجال». وبينما كانت الطيبة تتزين بهذا الشعار في صفوف القوى الوطنية ثم حركة أمل وحزب الله لاحقاً، انحاز كامل بك إلى الانعزالية في الحرب الأهلية وإلى قوات الصاعقة جنوباً. النيابة الطيبة: «إن لم يكن منها فصهرها» نهاية مركزية آل الأسعد في التاريخ السياسي الجنوبي لم يحل دون بقاء جزء من الإرث في الطيبة. يبدو أن البلدة وافقت على انهيار حكم طيف من أبنائها بشرط انتقاله إلى طيف آخر بعد تلاشي زمن الإقطاع العائلي. عام 1992، خرج كامل الأسعد من حضن النيابة التي استبقت الطيبة فيها من خلال ابنها حبيب صادق. فرغم أن الأخير مسجل في لوائح بلدة الخيام، إلا أن كبار السن يصرون على أن أجداده ينحدرون من آل يحيى في الطيبة التي هجروها بسبب تضييق آل الأسعد عليهم. في الدورة التالية، استبدلته المحدلة بنزيه منصور ضمن حصة حزب الله في أحد المقعدين الشيعيين في دائرة مرجعيون ــ حاصبيا، رغم أنه حينها كان موالياً لآل الأسعد، وشقيقه كان وكيلاً لأملاكهم في المنطقة. وتكريماً لدخوله على دراجة نارية مع طلائع المقتحمين للطيبة عند تحرير الجنوب، جُدِّد لمنصور على اللائحة الصفراء في دورة 2005. بإخراج منصور، خرجت نيابة الطيبة من الباب، لكن سرعان ما دخلت من الشباك مع اختيار صهرها، أحد أبرز كوادر حزب الله، محمد حيدر خلفاً لمنصور. الدورة الأخيرة أعادت التاج إلى الطيبة مجدداً، بتسمية ابنها علي فياض المنحدر أيضاً من آل يحيى، نائباً للحزب عن مرجعيون ــ حاصبيا، علماً بأن اسمه طرح منذ دورة عام 1992. مع ذلك، لم يكتف البعض بالمقعد النيابي المحفوظ للطيبة، بل سجل ترشيحات من خارج سرب الثنائيّ الشيعي، مستفيدين من تنوع الأحزاب فيها من الحزب التقدمي الاشتراكي إلى الشيوعي والبعثي. في الدورات السابقة، واظب كل من عباس شرف الدين وأحمد كامل الأسعد على الترشح من دون أن يكسبا احتضان المحدلة ولا الفوز مستقلين. فالأول صديق سابق للرئيس نبيه بري ومعارض حالي لـ «هيمنة» الثنائي على القرار الشيعي، فيما الثاني ورث خصومتهما وعززها بتوجهه السياسي. يقرّ فياض، في حديث مع «الأخبار»، بأن مسقط رأسه من «محسّنات تسميته» لهذا المنصب؛ فهي البلدة الثالثة من حيث الحجم في قضاء مرجعيون بعد الخيام وميس الجبل، ويسكنها نحو 14 ألف نسمة. مع ذلك، لم يدفع لقب سعادة النائب وتحوله إلى مقصد للمراجعين من القضاء وخارجه، ابن الطيبة إلى نسيان أصله واحداً من الفلاحين، فابتعد عن طقوس البكوات، رغم أن البعض ألصق به لقب «المفكر بيك». في إشارة إلى «طبعه» الأكاديمي، ما يجعله في نظر هؤلاء غير قادر على أن يظهر شعبياً في أدائه مع الناس ويقارنونه بأداء أحمد بك مثلاً الذي كان يتجول بين الناس ويجالسهم في الساحة، ولا سيما أنه لا يختلف عن نواب «الويك إند» الذين يخصصون لدائرتهم عطلة نهاية الأسبوع. لكن فياض يصرّ على تواضعه التلقائي. لم يبن لنفسه داراً، بل اكتفى باستخدام منزل عائلته المتواضع. داخل الصالة الصغيرة والوحيدة التي لا يفصلها عن مدخل البيت نواطير أو سكرتير، يتولى استقبال ناخبيه وغيرهم وتقديم «الضيافة» والحلوى بنفسه والاستماع إلى مراجعاتهم. والد يطلب مساعدته في تدبير وظيفة لابنته، وآخر يستعين به في وساطة مع مستشفى لإدخال مريض، ووفد يكلفه إثارة حاجة المنطقة لإنشاء جامعة ومركز صحي وتوفير المياه والكهرباء إلخ... لم يشعر «بعقدة» الطيبة التي عوّدت الناس أن يحجوا إليها لتقديم الولاء وطلب الخدمات. حاول قلب الصورة، فسعى فور انتخابه إلى استئجار مكتب له في بلدة مرجعيون، لكن لم يستطع بسبب قلة البيوت وغلاء الإيجارات، فانكفأ إلى العديسة حيث تولى حزب الله تجهيز مكتب له. لكنه أصر على أن يذهب إلى الناس، خصوصاً من ذوي الانتماءات المغايرة. صار مرجعاً في مرجعيون وزعيماً مكرماً في كفرشوبا وحاصبيا والماري. يدرك فياض استحالة كسب رضى الجميع. في قرارة نفسه، يعلم أن البعض لا يتوانى عن القول بأعلى صوته: «سقى الله أيام أحمد بيك»، إما بسبب عدم تلبية طلب له، أو لأنه يعترض سياسياً على الواقع الذي ورث إقطاع آل الأسعد. إلا أن محبي فياض ومنتقديه على السواء، ومن سبقه إلى النيابة، لا يختلفون على ضرورة احتفاظ الطيبة بمقعد في البرلمان. بل يكره هؤلاء على اختلاف عقائدهم السياسية، مجرد التفكير في احتمال خروجهم من الجنة.
خراب الدار
تدريجاً، أصبحت دار الطيبة خربة. إما بسبب قصف العدو الإسرائيلي لها، أو بسبب استخدامها من قبل المقاتلين خلال الحرب. لم يبق من القصر الضخم إلا أجزاء من واجهته المقنطرة وغرف متهاوية الجدران ونوافذ وأبواب مخلعة. كعبة جبل عامل تحولت إلى مرتع لبعض الشبان. الباحة الفسيحة التي شهدت مهرجانات تاريخية، لا تستقطب حالياً سوى قلة «يكزدرون» حولها، راجلين أو بسياراتهم. أما البئر التي كان نواطير آل الأسعد يجبرون النساء على حمل جرار المياه من العين لملئها وإلا ضربوهن بالسياط، فقد غدا هوة عميقة. بجوار الدار، غرفة أُحكم بابها بجنزير. لكن النوافذ المتشظية الزجاج تفضح الإهمال الذي لحق بقبور البكوات، كامل وشقيقه عبد اللطيف وابناه أحمد وفارس. شواهد غطاها الغبار والتكسير، كأنهما يسهمان في طيّ ماضي الطيبة. في محيط الدار المنهارة، ارتفعت دور وقصور فوق التلة التي كانت ممنوعة على أحد سوى البكوات. «ممنوع باب يفتح على باب الدار»، أمر أصدره كامل الحفيد رداً على محاولة شاب من الطيبة تشييد منزل في أرضه المجاورة لها.
القسم : أخبار الطيبة - الزيارات : [114] - التاريخ : 4/2/2013 - الكاتب : الاخبار/آمال خليل
القسم : أخبار البلدة - الزيارات : [2518] - التاريخ : 18/2/2013 - الكاتب : مدير الموقع